"هو إحنا إيه اللي جرى لنا؟ حالنا اتبدل ليه؟ إحنا ماكنّاش كده أبداً،
والله العظيم يبني ما كنا كده" جملة قالتها بأسى امرأة عجوز وأنفاسها
تتعثر بعد كل كلمة تترحم فيها على حال شعب بلغ به الأمر أن يشاهد "سيدة"
و"عجوز" يتقاذفها زحام الأتوبيس الخانق في حين أن جميع الجالسين إما في
حالة نوم مصطنع، أو لا مبالاة طبيعية غير مصطنعة.
هالني السؤال
الذي وجّهته هذه السيدة العجوز عن الطفرة السلبية التي طرأت على الإطار
الأخلاقي والقيمي للشعب المصري الذي طالما عُرفت عنه صفات الشهامة
و"الجدعنة" ثم أصبح فجأة -التعميم هنا غير وارد ولكن الحديث عن قطاع لا
يمكن إغفاله- ما بين متحرش ومغتصب، ما بين متعصب ومتزمت.
إجابات
ظللت أبحث عنها دون ملل ولكن طالما صدمني الفشل، ففي كل مرة أضع تبريرا
يدحضه ظهور عيب آخر أكثر سوءاً لا علاقة له بالمبرر الذي طرحته لهذا
التغير حتى وقع في يدي هذا الكتاب..
"ماذا حدث للمصريين؟" ليس
سؤالاً استنكاريا توجهت به هذه السيدة العجوز التي ذكرت ما حدث لها أعلاه،
بل هو عنوان كتاب للكاتب الكبير والمفكر الاقتصادي الدكتور جلال أمين،
كتاب يقدّم فيه دليلاً يشرح التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية
التي أصابت الشعب المصري خلال الأعوام الخمسين الأخيرة.. دليل يفهمه
المواطن المصري البسيط، ويقدّر عمقَه العالمُ المتفقهُ في علمه، وذلك في
نقاط نعرض لبعضها ونترك البقية الباقية في الجزء الثاني من هذا العرض
المتواضع لذلك الكتاب الرائع إذا كان في العمر بقية.. هذا باختصار شديد ما
حدث للمصريين.
الحراك الاجتماعي
في
البداية يعترض الكاتب جلال أمين على التقسيم التقليدي للمجتمع المصري بين
ثلاث طبقات فحسب بين: طبقة عليا، ووسطى، ودنيا.. مؤكدا على أن الطبقة
الوسطى نفسها يمكن تقسيمها إلى عدة طبقات أخرى فضلا عن أنه ليس تقسيماً
ثابتاً فمن كانوا طبقة وسطى أمس أصبحوا اليوم طبقة عليا، ومن كانوا من ذوي
الحسب والنسب في الطبقة العليا أمس أصبحوا اليوم في الطبقة الوسطى أو حتى
الدنيا.
ثم يعود إلى البدايات الأولى لهذا الحراك الاجتماعي مع
قيام ثورة يوليو نفسها، فالتقسيم الذي كان متعارفاً عليه آنذاك هو أن تكون
الفئة العليا من الهرم الاجتماعي مستأثرة بملكية الأراضي الزراعية
والمصانع الكبرى، بينما الفئة الوسطى ترضى بحالها في الوظائف المتدنية في
السلك الوظيفي الحكومي، بينما اقتصر دور الطبقة الفقيرة على الأعمال
الزراعية والحرفية إلى آخره... ولكن سياسات الثورة التي أمّمت بموجبها
الأراضي الزراعية وملّكتها للفلاحين الفقراء، وأتاحت التعليم بالمجان
لجميع فئات الشعب المصري دون تمييز فتح أبواب الطموح أمام الطبقات الوسطى
والدنيا نحو الصعود الاجتماعي وتبادل الأدوار، وهذا هو ما يقصده الكاتب من
مصطح الحراك الاجتماعي أو social mobility.
هذا فيما يتعلق بحقبة
الخمسينيات والستينيات أما حقبة السبعينيات فقد أضافت بُعدين جديدين ساهما
في حالة الحراك الاجتماعي الذي حدث للشعب المصري مما ساهم في هذا التغير
في شخصية المصري التي عُرفت عنه عبر العصور.
البُعد الأول هو
الهجرة حيث إن سياسة الانفتاح الاقتصادي التي اتبعها الرئيس محمد أنور
السادات فتحت أفاقاً وأبعاداً جديدة يمكن أن ينفذ منها المصري إلى الخارج،
فتكالبوا على البلاد النفطية بالآلاف، ولكنها لم تكن هجرة بالمعنى
المتعارف عليه بل كان رحيلاً مؤقتاً عادوا من بعده ليضخوا في الدورة
الاقتصادية بالسوق المصري ما اكتسبوه من خلال سنوات عملهم بالخليج، وهذا
كان له بالغ الأثر على الشخصية المصرية بصفة عامة.
فالثراء المادي
الذي تحقق لهذه الفئة من المصريين الذين سافروا جعل من طموحات الصعود
الاجتماعي أمراً لا غنى عنه بالنسبة للأشخاص الآخرين الذين لم يسافروا
بعد، فأصبح التباهي بأشياء كانت تعتبر رفاهية في الماضي أمراً وارداً بشدة
كتعليم أبنائهم في المدارس الأجنبية والحرص على اقتناء التكييف.
البُعد
الثاني من أبعاد الحراك الاجتماعي كان ما يسمى بالتضخم، والتضخم كان نتيجة
طبيعية للهجرة نفسها؛ حيث ضُخّ في السوق المصري كمية كبيرة جدا من تحويلات
أموال المسافرين في الخارج في السوق المصري دون أن يقابل ذلك سلع في السوق
المحلي، وبالتالي معظم من استفاد من هذا التضخم كانوا من طبقة المقاولين
والحرفيين وأصحاب الأراضي الزراعية، في حين أُضير منه الموظفون وأصحاب
الدخول الثابتة الذين توجهوا بدورهم للأعمال الحرة التي تساعد على تحقيق
الكسب السريع، ومن لم يتسنَّ له ذلك لم يمانع في أن تخرج زوجته إلى العمل؛
من أجل مجابهة ذلك التضخم الحادث الذي تسبب في ارتفاع الأسعار بصورة كبيرة.
وبالتالي كان نتيجة لما سبق مجموعة من النتائج والآثار التي ظهرت جلية في المجتمع المصري كالتالي:
صورة لغلاف الكتاب
1- زيادة الاستهلاك المظهري لدى قطاع عريض من الشعب المصري، ومحاولة
التخلص من الخلفيات الاجتماعية القديمة التي كانوا ينتمون بموجبها للطبقة
الوسطى، ومحاكاة الطبقة الجديدة التي انتموا إليها، ولكن مع بعض الإضافات
والرواسب التي استمرت معهم ولم تفارقهم.
2- "ليس من المستغرب
في فترات الحراك الاجتماعي السريع أن تقوى القيم المادية، وينخفض تقييم
المجتمع لما يسمى بفضائل الأخلاق"، هكذا رأى الكاتب جلال أمين أن هذا
الحراك الاجتماعي كان سبباً مباشراً في اختفاء كثير من الفضائل التي كان
يتميز بها المواطن المصري، وأصبح لا وجود لها، وحلت محلها أشياء أخرى، وإن
كنا نختلف معه في هذا الربط المباشر، وتدخّل عوامل أخرى تتعلق بالظروف
السياسية المحيطة وظروف النشأة والتربية وإلى آخره من عوامل، علماء
الاجتماع على علم بها أكثر من أي شخص آخر، إلا أن الصواب لم يجانبه في
أغلب ما قاله؛ حيث إن الطبقات التي صعدت فجأة من الطبقة الوسطى إلى الطبقة
العليا كانت على استعداد لأن تفعل أي شيء من أجل أن تحافظ على تلك المكانة
التي اكتسبتها، وبالتالي أصبحت الرشوة أمراً طبيعياً والانتهازية واردة
والوفاء بالوعد والكلمة أمور "عبط" لا تصلح في هذا المجتمع، حتى الجرائم
التي تُرتكب في الوقت الحالي مثل قتل الابن لأبيه أو أمه من أجل الميراث
إنما مردّه أيضا إلى رغبته في تحقيق تلك النقلة الاجتماعية التي يبتغيها،
واستعجال الثراء الذي من شأنه أن يغيّر من وضعه الاجتماعي.
3-
التفكك الاجتماعي كان نتيجة أيضاً لحالة الحراك الاجتماعي التي شهدتها
مصر؛ فالتفاهم غاب بين الزوجين؛ لأنه بني أساساً لأسباب تتعلق بالصعود
الاجتماعي لطرف على حساب الآخر، وبالتالي بعد الزواج يحدث صدام بين
الطرفين؛ نظراً لاختلاف ظروف النشأة أو تغير الحالة المادية للطرف الثاني،
وبالتالي يتراجع عنه الطرف الأول؛ لأنه لم يتزوجه عن حب واقتناع، بل بناء
على ظروف مادية كان من شأنها أن تحقق له الصعود الاجتماعي المنشود.
الأمر
لا يختلف كثيرا بالنسبة للأبناء فالطبقة التي عادت لتوها من الخليح وبلاد
النفط بصفة عامة أغرقت أولادها في بيئة المجتمع الراقي من مدارس دولية
وخاصة ونوادي الصفوة الاجتماعية، وبالتالي نشأ هذا الجيل الثاني غير حامل
أي قدر من التقدير لآبائهم الذين لا يرون فيهم أي مثل أو قدوة، بل مجرد
مصادر تمويل.
4- من ضمن النتائج التي تسبب فيها الحراك
الاجتماعي كان ما يسمى بالتغريب أو الانجذاب أكثر للغرب، فالطبقة التي
عادت من بلاد النفط احتكت ببلاد محتكة بالغرب، ولم تحتكّ بالغرب مباشرة،
يعني نقلت عن الغرب من خلال وسيط، وهذا الوسيط هو دول الخليج، والغرب الذي
نقل منه دول الخليج كان الولايات المتحدة وليس أوروبا كما كان يفعل
أرستقراطيو القرن الماضي، وهذا يفسر -من وجهة نظر الكاتب- سبب انتشار
المطاعم الأمريكية في مصر بعد فترة السبعينيات وحتى الآن، ويفسّر سبب
انتشار الزي الأمريكي مثل البنطلونات الجينس والموسيقى الأمريكية، وانتشار
ثقافة الاحتفال بأعياد الميلاد بين الطبقة الوسطى الصاعدة بعد أن كان هذا
الأمر مقتصراً فحسب على الطبقة الأرستقراطية.
وعلى الرغم من أن ردّ
هذه الحالة من التغريب فقط إلى الاحتكاك بدول الخليج فإن في التعميم شيئا
من مجانبة الصواب؛ حيث إن وسائل الأعلام المصرية نفسها كانت وسيلة كبيرة
لهذا التغريب؛ خاصة بالنسبة للفئة الدنيا من الشباب الذين لم يسافروا
للخليج هم أو آباؤهم إلى هناك، فضلاً عن أن الطبقة التي سافرت إلى دول
الخليج كانت بالأساس من الطبقات الوسطى أو الدنيا، وبالتالي تأثرها بهذا
النمط الغربي ربما يكون أقل قوة مقارنة بتأثرهم بنمط الحياة الخليجي نفسه
مثل النقاب واللحية.
5- إن حالة الضياع التي تعيشها اللغة
العربية في أفواه أبنائها هذه الأيام يعود أيضا إلى حالة الحراك
الاجتماعي؛ حيث إن الصعود المفاجئ للطبقات الدنيا والوسطى للطبقات الأعلى،
ودخول أولادهم للمدارس الدولية والأجنبية أدى إلى تراجع دور اللغة العربية
واعتبارها من مستلزمات الطبقات الأقل، وليس الطبقة العليا، وبالتالي
اختلطت الكلمات الأجنبية بالعربية هذا من جانب، ومن جانب آخر دخل على
اللغة العربية نفسها بعض الكلمات العامية التي حملتها معها الطبقات
الصاعدة مثل "طنّش" و"فوّت" و"مشّي أمورك".
كان هذه بعض من نتائج
الحراك الاجتماعي الذي حدث في مصر بعد فترة السبعينيات والذي كان بدوره
أحد الأسباب التي نتج عنها ذلك التحول الجذري في شخصية المصريين، أردنا
إفراد هذه الحلقة لهذا العامل وحده؛ لما فيه من أهمية وتأثير بالغين على
الإطار القيمي والأخلاقي للمواطن المصري، ونوالي في الحلقة القادمة التعرض
لباقي العوامل.. فتابعونا.