بعد أن أثار يوسف زيدان زوبعة من الاعتراضات على روايته "عزازيل" قرر أن يهدي قارئه عاصفة جديدة؛ ولكن هذه المرة لم تكن الاعتراضات والنقاشات حول كتابه الجديد من أتباع المسيحية فقط؛ ولكن من أتباع الديانات الثلاث (اليهودية، والمسيحية، والإسلام).
يفتح يوسف زيدان النار على نفسه بكتاب بدأ كبحث مختصر عنوانه "اللاهوت العربي قبل الإسلام، وامتداده في علم الكلام"، وكان قد ألقاه بمؤتمر "القبطيات" الذي انعقد بمقر الكاتدرائية المرقسية بالقاهرة، في منتصف سبتمبر 2008.
وانتهى ككتاب من سبعة فصول ومقدمة وخاتمة من أمتع ما يكون؛ حيث قدّم زيدان لأفكاره بثمانية أقوال تمهيدية شيّقة جديرة بأن تشعل ثورة عقل القارئ الذكي وتشده إلى داخل الكتاب، ثم قدم الفصول السبعة حسب التسلسل الزمني لنشأة اللاهوت العربي، وختم بسرد فوائد البحث، وبالحديث عن جدلية العلاقة بين الدين والعنف والسياسة.
نوّه زيدان في بداية كتابه بأنه لم يضعه للقارئ الكسول، ولا لأولئك الذين أدمنوا تلقّي الإجابات الجاهزة، عن الأسئلة المعتادة، ويضيف أنه "في نهاية الأمر كتاب، قد لا يقدِّم ولا يؤخِّر".
ولذلك سأقول لقارئ "بص وطل" إذا كنت قارئاً نهماً، وترغب في إمتاع عقلك وتغذيته بمعلومات شديدة الأهمية حول الأديان الثلاث، وإذا كنت ترغب في تنشيط ذهنك وإشعاله بحقائق تستحق البحث والمقارنة والتفكير المنطقي؛ فلا تقرأ هذا العرض، واذهب مباشرة واشترِ كتاب يوسف زيدان واقرأه؛ أما لو كنت كسولاً تحتاج من يشجعك؛ فربما تثير بداخلك هذه القراءة -بين سطور الكتاب- الرغبة في الحصول على الكتاب وقراءته؛ لأن هذه الكبسولة لن تسع جميع الحقائق والمعلومات التي سردها الكاتب، وإن كنا سنحاول أن نسرد أهمّ ما جاء به من أفكار، وبعضاً من الأدلة التي ساقها زيدان عليها، رغم اعتراضي على قوله إنه كتاب قد لا يقدِّم ولا يؤخِّر؛ فلقد قدّم يوسف زيدان بهذا الكتاب للعقل العربي هدية، ورغم ما سيقابله من اعتراضات؛ إلا أنني ما زلت أرى أن هذا الكتاب بُنِي على الإيمان بما جاء في الديانات الثلاث، وعلى الترابط الكبير بينهم.
تناول زيدان في مقدمته الطويلة -كما سبق وذكرنا- ثمانية أقوال هامة يعيد بها النظر في الأديان الثلاث مجتمعة وبالتصورات المرتبطة بها:
أولها: في سماوية الدين بالضرورة؛ حيث جرت العادة على تسمية الثلاثة أديان بالديانات السماوية، وانتشار هذه التسمية لا يقتصر على الأديان الثلاث؛ فأي دين أياً كان؛ هو بالضرورة سماوي لغة واصطلاحاً بمعنى العلو والسمو. ورأى زيدان أن الصفة المميزة هي أنها ديانات رسولية؛ لأنها أتت برسالة من السماء، كما أوضح أنه لا يشترط أن تكون كل الديانات التي تحتفي بالأصنام "وثنية".
والثاني: كان القول بأن الديانات الثلاث واحدة، وربما يوحي هذا للبعض بأنه يحاول تأكيد فكرة أن "الدين عند الله الإسلام"؛ ولكن من خلال القراءة ستجد أنه يرى أن الجوهر الاعتقادي للثلاث أديان واحد، وإن اختلفت مظاهر التدين بسبب اختلاف اللغات والأماكن والأزمنة.
والقول الثالث حول مقارنة الأديان وكيف أنها تحولت لعلم يسعى لامتلاك (سلاح) لينصر الدين على الدين الآخر، ويتساءل زيدان عن الفارق بين علم مقارنة الأديان في الإسلام، المزعوم، وما يسمى في المسيحية بعلم اللاهوت الدفاعي؛ ففي الحالتين لم يقدم أي منهما تأريخاً للعقائد على النحو الواجب.
بعد ذلك يقدم زيدان لمنهجه الذي يراه مناقضاً تماماً للدعوى التي يقوم عليها علم مقارنة الأديان، وفيها يحاول التخلص والتجرد من الميول والاعتقادات ليصل إلى الموضوعية اللازمة لتفسير الظواهر الدينية واقترانها بالعنف في ظل حقب تاريخية معينة؛ مما يؤدي إلى التخلف عن الإنسانية، والذي يختلف تماماً عن رسالتها الأصلية.
ثم يضع زيدان بعض الفرضيات الأساسية ومنها ما يفيد بأنه لا يمكن دراسة التراث العربي/ الإسلامي، ولن يمكن فهمه؛ إلا بالنظر في الأصول الأسبق زمناً والتي تعتبر مقدمات له؛ وبالتالي فالفرضية الأساسية الثانية تفيد عدم اشتراط تأثير الأقدم زمناً في الأحدث؛ ولكنه أحياناً قد يحدث العكس؛ فيؤثِّر اللاحق في السابق، وقدم لهذا أمثلة عديدة أثّر فيها الفكر الأفلاطوني في اليهودية أو أثّر الفقه الإسلامي في المسيحية.
ويريد زيدان من خلال هذه الفرضية أن يوضّح أن التفاعل بين الديانات لم يقتصر على التعاقب الزمني؛ ولكنه تعدى ذلك إلى تفاعلات عميقة، ويضع زيدان فرضية تفيد أن اختلاف اللغات المعبّر بها عن المفاهيم والاصطلاحات الدينية قد يوهم البعض باختلاف الدلالة؛ ولكن الدراسة المتأنية توضّح أن المعنى المراد واحد على الرغم من تعدد التسميات وكأنه متعدد.
وفي القول السادس يتحدث زيدان عما أسماه تداخل الدوائر، وهو حالة التأثير والتأثر التي حدثت بين التراث المسيحي والعروبة والدين الإسلامي.
وفي قوله السابع يشير إلى ضبط بعض المفردات التي قد يلتبس على القارئ فهمها مثل: لاهوت، هرطقة، أرثوذكسية.
أما القول الثامن والأخير في مقدمته الطويلة والهامة؛ فهو حول فحوى اللاهوت العربي، الذي ظهر كمحاولة للانتقال بالفكر الديني المسيحي من الاشتغال بحقيقة وطبيعة المسيح إلى الانشغال بالطبيعة الإلهية وللرد على الاجتهادات الهرطوقية، والتي أوضح زيدان من خلال كتابه أنها أصل ما ظهر في الإسلام باسم علم الكلام.
في الفصل الأول يقدم زيدان جذور الإشكال في الفكر اللاهوتي العربي، والتي تأتي من صورة الله والأنبياء في التوراة، والتي صوّرت الإله في صورة إنسانية رديئة، وصوّرت الأنبياء في صور مفزعة؛ فهم لا يتوّرعون عن الإتيان بأفعال مهولة تتنافى والصفات الربانية والصور الرسالية التي لا يمكن قبولها عند غير المؤمنين بقدسية النص التوراتي.
وقد بقي هذا الإشكال العميق قائماً حتى جاء الحل المسيحي، والذي يفرد له زيدان الفصل الثاني، ويشرح كيف تم التحول من فكرة الثيولوجيا (الصورة الإلهية) إلى الكريستولوجيا، والتي ربطت كل ما هو إلهي بالمسيح؛ حتى صار الإيمان القويم (الأرثوذكسي) إيماناً بالمسيح الذي هو الله، وصار التشكيك في إلوهيته التامة يعني الكفر بعينه والهرطقة.
(النبوة والبنوة) هو عنوان الفصل الثالث والذي يتحدث عن فكرة تمازج البشر بالآلهة، ووجودها منذ عصر الفراعنة، وما تلا ذلك مما عرف في الحضارة اليونانية والأساطير التي لطالما خلطت بين البشر والآلهة، وما نقل بدوره إلى اللاهوت العربي وتأكد بنصوص الاعتراف وقانون الإيمان الصادر عن مجمع المسكوني الأول (النيقي)، والذي قال بألوهية المسيح، والتي مثلت العقيدة الأرثوذكسية "الإيمان القويم" عند المسيحيين، كانت تنعقد بعض المجامع الكنسية من أجل المشاكل العقائدية التي تدور حول طبيعة المسيح، ومنها هذا المجمع الأول، والذي ناقش مشكلة الأقنوم الثالث الخاص بالروح القدس، وأيضاً لاتخاذ موقف ضد آريوس الهرطوقي الأعظم، الذي أنكر ألوهية المسيح.
وفي الفصل الرابع وهو فصل ثريّ يقدم فيه زيدان دراسة مطوّلة عن جدل الأرثوذكس الذين تمركزوا في الإسكندرية ومصر واليونان والحوافّ المتوسطية، في الوقت نفسه الذي شهدت فيه الشام والعراق هرطقات متوالية، وتطورهم وتطور النقاش الذي احتدم بينهم، وعن الاجتهادات والإشكاليات التي نتجت عن الاختلاف بينهم، وعن اللاهوت المسيحي العربي الذي ظهر على يد آريوس ونسطور وعن المجامع المسكونية وأثرها في تطور الديانة.
وفي الفصلين الخامس والسادس يتحدث زيدان عن الإسلام وعما قدمه القرآن، أو "أحسن القصص"، كما أشار إليه من بناء جديد ومتماسك للتصورات القديمة الخاطئة التي تم استنباطها من القصص التوراتية والمذاهب المسيحية؛ هذا البناء الذي طوّر اللاهوت (العربي) المسيحي إلى علم الكلام (العربي) الإسلامي، ويذكر في سياق الفصل السادس قصص "آباء المتكلمين"، الذين تعامل معهم المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت كامتداد للهرطقة المسيحية؛ ليؤكد مرة ثانية على ارتباط الديانات الثلاثة من حيث الجوهر.
تحت اسم "اللاهوت والملكوت.. أطُر التدين ودوائره" يقدّم زيدان فصله السابع كدليل جديد على ارتباط الديانات الثلاثة بعضها البعض، وعلى وجوب التعامل مع اللاهوت العربي كوحدة واحدة متصلة، ويدلل على ذلك بثلاث ظواهر جليّة في الثلاث ديانات، ومرتبطة بتعبّد الناس وتديّنهم؛ بل إنهم أحياناً يفهمون الدين من خلالها، وهي الإنابة، وتعني وجود نائب لله على الأرض، والثانية الإبادة؛ ففي الأديان الثلاثة يصور الله قائماً بالكون وفاعلاً للإبادة لأعدائه، وأن نائبه في الأرض أو الناطق باسمه قد يدمّر ويبطش باسمه أيضاً، والثالثة هي الخروج وهو الهجرة والفرار كنتيجة للاضطهاد، وهي سمة مشتركة في الثلاث ديانات.
في خاتمة الكتاب يوضح زيدان الفوائد الهامة لبحثه والتي تتلخص في إدراك القارئ للسبب الحقيقي وراء ظهور علم الكلام، والكشف عن فكرة التأثير والتأثر، والتي ستكشف بالتبعية عن أن اللاهوت وعلم الكلام وجهان لعملة واحدة؛ فيمحو عن العقل الإنساني أفكار التفرد والتأثير دون التأثر وما يتبعه من أفكار عنصرية يتبناها الشخص ليشعر بتميّزه دون الآخرين، وتأكيده على صلة الدين بالسياسة، وصلته بالعنف، ليختم كتابه ببحث صغير عن جدلية العلاقة بين العنف والدين والسياسة، وعن أفق التعايش السلمي بين الدين والسياسة والتي نوجزها في: الفهم والتفهم، الإظهار بديلاً للاستتار، الضبط المتوازن، والتعاون الدولي.
كتاب يوسف زيدان الجديد سينجح في طرق أبواب منسية داخل العقل العربي، وبغضِّ النظر عن الدين الذي تدين به ومعلوماتك عنه ستجد داخل الكتاب معلومات هامة وكثيرة عن الأديان الأخرى، نحتاج أن نستوعبها جميعاً لنستوعب معها مدى الترابط بين الأديان، وهو ما يطلق عليه زيدان "التفاهم والتفهم"، وهو أول الخطوات للتعايش السلمي ونبذ العنف في المجتمع العربي.
كتاب: اللاهوت العربي وأصول العنف الديني
المؤلف: يوسف زيدان
الناشر : دار الشروق
عدد الصفحات: 230 صفحة[img][/img][img][/img][td]
يفتح يوسف زيدان النار على نفسه بكتاب بدأ كبحث مختصر عنوانه "اللاهوت العربي قبل الإسلام، وامتداده في علم الكلام"، وكان قد ألقاه بمؤتمر "القبطيات" الذي انعقد بمقر الكاتدرائية المرقسية بالقاهرة، في منتصف سبتمبر 2008.
وانتهى ككتاب من سبعة فصول ومقدمة وخاتمة من أمتع ما يكون؛ حيث قدّم زيدان لأفكاره بثمانية أقوال تمهيدية شيّقة جديرة بأن تشعل ثورة عقل القارئ الذكي وتشده إلى داخل الكتاب، ثم قدم الفصول السبعة حسب التسلسل الزمني لنشأة اللاهوت العربي، وختم بسرد فوائد البحث، وبالحديث عن جدلية العلاقة بين الدين والعنف والسياسة.
نوّه زيدان في بداية كتابه بأنه لم يضعه للقارئ الكسول، ولا لأولئك الذين أدمنوا تلقّي الإجابات الجاهزة، عن الأسئلة المعتادة، ويضيف أنه "في نهاية الأمر كتاب، قد لا يقدِّم ولا يؤخِّر".
ولذلك سأقول لقارئ "بص وطل" إذا كنت قارئاً نهماً، وترغب في إمتاع عقلك وتغذيته بمعلومات شديدة الأهمية حول الأديان الثلاث، وإذا كنت ترغب في تنشيط ذهنك وإشعاله بحقائق تستحق البحث والمقارنة والتفكير المنطقي؛ فلا تقرأ هذا العرض، واذهب مباشرة واشترِ كتاب يوسف زيدان واقرأه؛ أما لو كنت كسولاً تحتاج من يشجعك؛ فربما تثير بداخلك هذه القراءة -بين سطور الكتاب- الرغبة في الحصول على الكتاب وقراءته؛ لأن هذه الكبسولة لن تسع جميع الحقائق والمعلومات التي سردها الكاتب، وإن كنا سنحاول أن نسرد أهمّ ما جاء به من أفكار، وبعضاً من الأدلة التي ساقها زيدان عليها، رغم اعتراضي على قوله إنه كتاب قد لا يقدِّم ولا يؤخِّر؛ فلقد قدّم يوسف زيدان بهذا الكتاب للعقل العربي هدية، ورغم ما سيقابله من اعتراضات؛ إلا أنني ما زلت أرى أن هذا الكتاب بُنِي على الإيمان بما جاء في الديانات الثلاث، وعلى الترابط الكبير بينهم.
تناول زيدان في مقدمته الطويلة -كما سبق وذكرنا- ثمانية أقوال هامة يعيد بها النظر في الأديان الثلاث مجتمعة وبالتصورات المرتبطة بها:
أولها: في سماوية الدين بالضرورة؛ حيث جرت العادة على تسمية الثلاثة أديان بالديانات السماوية، وانتشار هذه التسمية لا يقتصر على الأديان الثلاث؛ فأي دين أياً كان؛ هو بالضرورة سماوي لغة واصطلاحاً بمعنى العلو والسمو. ورأى زيدان أن الصفة المميزة هي أنها ديانات رسولية؛ لأنها أتت برسالة من السماء، كما أوضح أنه لا يشترط أن تكون كل الديانات التي تحتفي بالأصنام "وثنية".
والثاني: كان القول بأن الديانات الثلاث واحدة، وربما يوحي هذا للبعض بأنه يحاول تأكيد فكرة أن "الدين عند الله الإسلام"؛ ولكن من خلال القراءة ستجد أنه يرى أن الجوهر الاعتقادي للثلاث أديان واحد، وإن اختلفت مظاهر التدين بسبب اختلاف اللغات والأماكن والأزمنة.
والقول الثالث حول مقارنة الأديان وكيف أنها تحولت لعلم يسعى لامتلاك (سلاح) لينصر الدين على الدين الآخر، ويتساءل زيدان عن الفارق بين علم مقارنة الأديان في الإسلام، المزعوم، وما يسمى في المسيحية بعلم اللاهوت الدفاعي؛ ففي الحالتين لم يقدم أي منهما تأريخاً للعقائد على النحو الواجب.
بعد ذلك يقدم زيدان لمنهجه الذي يراه مناقضاً تماماً للدعوى التي يقوم عليها علم مقارنة الأديان، وفيها يحاول التخلص والتجرد من الميول والاعتقادات ليصل إلى الموضوعية اللازمة لتفسير الظواهر الدينية واقترانها بالعنف في ظل حقب تاريخية معينة؛ مما يؤدي إلى التخلف عن الإنسانية، والذي يختلف تماماً عن رسالتها الأصلية.
ثم يضع زيدان بعض الفرضيات الأساسية ومنها ما يفيد بأنه لا يمكن دراسة التراث العربي/ الإسلامي، ولن يمكن فهمه؛ إلا بالنظر في الأصول الأسبق زمناً والتي تعتبر مقدمات له؛ وبالتالي فالفرضية الأساسية الثانية تفيد عدم اشتراط تأثير الأقدم زمناً في الأحدث؛ ولكنه أحياناً قد يحدث العكس؛ فيؤثِّر اللاحق في السابق، وقدم لهذا أمثلة عديدة أثّر فيها الفكر الأفلاطوني في اليهودية أو أثّر الفقه الإسلامي في المسيحية.
ويريد زيدان من خلال هذه الفرضية أن يوضّح أن التفاعل بين الديانات لم يقتصر على التعاقب الزمني؛ ولكنه تعدى ذلك إلى تفاعلات عميقة، ويضع زيدان فرضية تفيد أن اختلاف اللغات المعبّر بها عن المفاهيم والاصطلاحات الدينية قد يوهم البعض باختلاف الدلالة؛ ولكن الدراسة المتأنية توضّح أن المعنى المراد واحد على الرغم من تعدد التسميات وكأنه متعدد.
وفي القول السادس يتحدث زيدان عما أسماه تداخل الدوائر، وهو حالة التأثير والتأثر التي حدثت بين التراث المسيحي والعروبة والدين الإسلامي.
وفي قوله السابع يشير إلى ضبط بعض المفردات التي قد يلتبس على القارئ فهمها مثل: لاهوت، هرطقة، أرثوذكسية.
أما القول الثامن والأخير في مقدمته الطويلة والهامة؛ فهو حول فحوى اللاهوت العربي، الذي ظهر كمحاولة للانتقال بالفكر الديني المسيحي من الاشتغال بحقيقة وطبيعة المسيح إلى الانشغال بالطبيعة الإلهية وللرد على الاجتهادات الهرطوقية، والتي أوضح زيدان من خلال كتابه أنها أصل ما ظهر في الإسلام باسم علم الكلام.
في الفصل الأول يقدم زيدان جذور الإشكال في الفكر اللاهوتي العربي، والتي تأتي من صورة الله والأنبياء في التوراة، والتي صوّرت الإله في صورة إنسانية رديئة، وصوّرت الأنبياء في صور مفزعة؛ فهم لا يتوّرعون عن الإتيان بأفعال مهولة تتنافى والصفات الربانية والصور الرسالية التي لا يمكن قبولها عند غير المؤمنين بقدسية النص التوراتي.
وقد بقي هذا الإشكال العميق قائماً حتى جاء الحل المسيحي، والذي يفرد له زيدان الفصل الثاني، ويشرح كيف تم التحول من فكرة الثيولوجيا (الصورة الإلهية) إلى الكريستولوجيا، والتي ربطت كل ما هو إلهي بالمسيح؛ حتى صار الإيمان القويم (الأرثوذكسي) إيماناً بالمسيح الذي هو الله، وصار التشكيك في إلوهيته التامة يعني الكفر بعينه والهرطقة.
(النبوة والبنوة) هو عنوان الفصل الثالث والذي يتحدث عن فكرة تمازج البشر بالآلهة، ووجودها منذ عصر الفراعنة، وما تلا ذلك مما عرف في الحضارة اليونانية والأساطير التي لطالما خلطت بين البشر والآلهة، وما نقل بدوره إلى اللاهوت العربي وتأكد بنصوص الاعتراف وقانون الإيمان الصادر عن مجمع المسكوني الأول (النيقي)، والذي قال بألوهية المسيح، والتي مثلت العقيدة الأرثوذكسية "الإيمان القويم" عند المسيحيين، كانت تنعقد بعض المجامع الكنسية من أجل المشاكل العقائدية التي تدور حول طبيعة المسيح، ومنها هذا المجمع الأول، والذي ناقش مشكلة الأقنوم الثالث الخاص بالروح القدس، وأيضاً لاتخاذ موقف ضد آريوس الهرطوقي الأعظم، الذي أنكر ألوهية المسيح.
وفي الفصل الرابع وهو فصل ثريّ يقدم فيه زيدان دراسة مطوّلة عن جدل الأرثوذكس الذين تمركزوا في الإسكندرية ومصر واليونان والحوافّ المتوسطية، في الوقت نفسه الذي شهدت فيه الشام والعراق هرطقات متوالية، وتطورهم وتطور النقاش الذي احتدم بينهم، وعن الاجتهادات والإشكاليات التي نتجت عن الاختلاف بينهم، وعن اللاهوت المسيحي العربي الذي ظهر على يد آريوس ونسطور وعن المجامع المسكونية وأثرها في تطور الديانة.
وفي الفصلين الخامس والسادس يتحدث زيدان عن الإسلام وعما قدمه القرآن، أو "أحسن القصص"، كما أشار إليه من بناء جديد ومتماسك للتصورات القديمة الخاطئة التي تم استنباطها من القصص التوراتية والمذاهب المسيحية؛ هذا البناء الذي طوّر اللاهوت (العربي) المسيحي إلى علم الكلام (العربي) الإسلامي، ويذكر في سياق الفصل السادس قصص "آباء المتكلمين"، الذين تعامل معهم المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت كامتداد للهرطقة المسيحية؛ ليؤكد مرة ثانية على ارتباط الديانات الثلاثة من حيث الجوهر.
تحت اسم "اللاهوت والملكوت.. أطُر التدين ودوائره" يقدّم زيدان فصله السابع كدليل جديد على ارتباط الديانات الثلاثة بعضها البعض، وعلى وجوب التعامل مع اللاهوت العربي كوحدة واحدة متصلة، ويدلل على ذلك بثلاث ظواهر جليّة في الثلاث ديانات، ومرتبطة بتعبّد الناس وتديّنهم؛ بل إنهم أحياناً يفهمون الدين من خلالها، وهي الإنابة، وتعني وجود نائب لله على الأرض، والثانية الإبادة؛ ففي الأديان الثلاثة يصور الله قائماً بالكون وفاعلاً للإبادة لأعدائه، وأن نائبه في الأرض أو الناطق باسمه قد يدمّر ويبطش باسمه أيضاً، والثالثة هي الخروج وهو الهجرة والفرار كنتيجة للاضطهاد، وهي سمة مشتركة في الثلاث ديانات.
في خاتمة الكتاب يوضح زيدان الفوائد الهامة لبحثه والتي تتلخص في إدراك القارئ للسبب الحقيقي وراء ظهور علم الكلام، والكشف عن فكرة التأثير والتأثر، والتي ستكشف بالتبعية عن أن اللاهوت وعلم الكلام وجهان لعملة واحدة؛ فيمحو عن العقل الإنساني أفكار التفرد والتأثير دون التأثر وما يتبعه من أفكار عنصرية يتبناها الشخص ليشعر بتميّزه دون الآخرين، وتأكيده على صلة الدين بالسياسة، وصلته بالعنف، ليختم كتابه ببحث صغير عن جدلية العلاقة بين العنف والدين والسياسة، وعن أفق التعايش السلمي بين الدين والسياسة والتي نوجزها في: الفهم والتفهم، الإظهار بديلاً للاستتار، الضبط المتوازن، والتعاون الدولي.
كتاب يوسف زيدان الجديد سينجح في طرق أبواب منسية داخل العقل العربي، وبغضِّ النظر عن الدين الذي تدين به ومعلوماتك عنه ستجد داخل الكتاب معلومات هامة وكثيرة عن الأديان الأخرى، نحتاج أن نستوعبها جميعاً لنستوعب معها مدى الترابط بين الأديان، وهو ما يطلق عليه زيدان "التفاهم والتفهم"، وهو أول الخطوات للتعايش السلمي ونبذ العنف في المجتمع العربي.
كتاب: اللاهوت العربي وأصول العنف الديني
المؤلف: يوسف زيدان
الناشر : دار الشروق
عدد الصفحات: 230 صفحة[img][/img][img][/img][td]